كحال معظم الغلمان في قريته الصغيرة محدودة الدخل كان
فعلى طول ضفتي النهر أنشأ أهل القرية مطاعم تقدم أفخر الطعام للهاربين من حر الصيف اللاهب من سكان العاصمة
فمنذ أواخر الربيع و حتى أوائل الخريف تزدحم بروادها من ذوي الدخل المتوسط و تزدحم أكثر و أكثر أيام الجمعة
يتوافدون بمختلف وسائل النقل بعضهم في قطار النزهة
بعضهم بحافلات الباص الكبيرة أو الصغيرة
و بعضهم بسيارات الأجرة
و الأيسر حالاً بسياراتهم الخاصة
مهنة عبد الرحمن في الصيف ترتيب مواقف المتنزهين و غسيل سيارات من يرغب منهم
كان عبد الرحمن يوفر بمكسبه الجيد لشراء اللوازم المدرسية و الملابس و يسلم والده ما يفيض
شعلة من النشاط و الذكاء و شخصية قيادية إذ سرعان ما تزعم رفاقه العاملين في نفس المجال فكان يوزع العمل بينه و بينهم بالعدل و القسطاط مقابل حصة بسيطة
و في يوم ازدحمت فيه القرية و تكدس في مطاعمها المائات
اشتد الضغط على عبد الرحمن و رفاقه
في ذلك اليوم المشؤوم وقعت الحادثة
فبينما كان عائدا من النهر بدلوين ملأهما من مائه إذا بسيارة أجرة تدهسه فارتمى على الأرض فاقد الوعي
استغل قائد السيارة تجمع الناس حول المصاب محاولين إسعافه فلاذ بالفرار
أصيب رفاقه باضطراب و ارتباك كبيرين
تمر شاحنة أبو محمود الصغيرة ذات الثلاث عجلات
يوقفونها
يلقون عبد الرحمن فيها و كأنهم يلقون
شوال بطاطا
يصحو
يتأوه
(كسر في عظمة فخذه بدأ ينهش العضلة المجاورة )
يصرخ
صاح أبو ناصر:
خذو يا أبو محمود عالمستشفى
أبو محمود : شاحنتي بطيئة يا جماعة و ممنوع علي أدخل فيها على المدينة
صاح آخر :
دبر راسك يا أبو محمود إذا سألك حدا قلهم انو معك حالة إسعاف
اقترح ثالث :
حدا يروح معهم
و بلمح البصر صعد أبو فياض إلى جانب السائق و أبو علي إلى جانب المصاب
تحركت الشاحنة الصغيرة ببطء
صعدت إلى الطريق العام بصعوبة
عبد الرحمن يصيح متألما مع كل هزة
( ضلع من قفصه الصدري بدأ ينبثق خارج الجلد )
يهدئه أبو علي
ثم يصرخ أبو علي قارعا على نافذة السائق الخلفية :
عم ينزف كتير لك أسرع أكثر يا أبو محمود
و أبو محمود يتجاهله فهذه أقصى ما يمكنه من سرعة
في قرية مجاورة لمح أبو محمود سيارة أجرة واقفة
توقف بدوره هرع نحوها
خاطب السائق فأقنعه و رفيقاه بضرورة إسعاف المصاب
فرضي على مضض
حملوه و كأنهم يحملون
شوال بطاطا
ثم أدخلوه إلى باطن السيارة بصعوبة
المصاب يولول و يزداد صياحه و يتحشرج صوته
يصفر وجهه
( ضلع أخر من قفصه الصدري بدأ يحفر رئته اليمنى )
ثم أغمي عليه من جديد
و انطلقت سيارة الأجرة بالجريح و صحبه به بأقصى سرعة
و قد وضع السائق يده على البوق فأخذ يعوي محاكيا سيارة الإسعاف
عند مفترق الطريق المؤدي إلى المدينة أوقفته دورية شرطة المرور :
هات أوراقك تجاوزت السرعة المقررة وزعجت الناس بصوت زمورك
معي حالة إسعاف يا أخوان
هات أوراقك بلا كتر حكي
المصاب في حالة خطرة يا أخوان
هات أوراقك فورا و إلا
يتدخل أبو فياض :
يا إخوان المصاب بحاجة لإسعاف فوري لك الولد عم ينزف
بدأ الدم يخرج من فمه
يسأله شرطي :
و ليش ما طلبتوا سيارة إسعاف ؟
هز أبو فياض رأسه و قد ارتسمت على شفتيه إبتسامة ساخرة :
الأسبوع الماضي طلبنا سيارة الإسعاف لأم رضا جارتنا بعد ما وقعت من على درج السلم فتكسرت عظامها و وصلت سيارة الاسعاف بعد ساعة من وفاتها
يتقدم قائد الدورية من السائق سائلا :
شكلك أنت اللي دعستو بسيارتك؟ أنت موقوف حتى استكمال التحقيق
يا جماعة الخير انا ما دعست حدا يا سيدي أنا اللهم عم اعمل خير لإنقاذ هل مسكين
يتدخل أبو علي :
الدم غطا كل اواعيه وجهو صار أبيض لك عم يرجف لك عم ينازع الرحمة يا ناس
يتقدم السائق من قائد الدورية يهمس بأذنه يضع شيئا ما في جيبه
يبتسم الشرطي ثم يسمح له بالانطلاق
هاد هو المستشفى
يزفر أبو فياض بارتياح
تتوقف السيارة عند بابه الرئيسي ثم يحملونه و كأنهم يحملون
شوال بطاطا
يصحو عبد الرحمن من غيبوبته
يصرخ متألما
( ضلع ثالث من قفصه الصدري بدأ يذبح قلبه )
و يزداد صياحه مع كل حركة
يدخلون به إلى فسحة الاستقبال
فتصيح مسؤولة الاستقبال :
شو عم تعملو؟ و مين انتو ؟ و مين هاد اللي حاملينو؟ و مين حولكم لعنا؟
يجيبها السائق و هو يلهث :
دعستو سيارة
لك عم ينزف مو وقت الكلام هلء يا أختي أسعفوه الله يرحم أمواتكم
تجيبه باستكبار :
هادا مشفى خاص يا أخي
و هي حالة إسعاف خاصة يا أختي
يجيبها أبو علي منفعلا
تصيح في وجهه :
بلا كتر حكي يا سيد نحنا ما عنا هون قسم إسعاف و لا بنستقبل حالات الإسعاف
يشتد الجدال
تعلو الأصوات
يخرج لهم مدير المشفى
يهرعون إليه مستنجدين
فيجيبهم و قد قطب جبينه و لوى فمه :
قالت لكم الست ما عنا قسم إسعاف خذوه على المشفى الحكومي
يصيح في وجهه أبو فياض :
الشب عم يموت بين أيدينا و تقول خذوه على المشفى الحكومي ؟
أنت إنسان أنت ؟ إن مات عبد الرحمن رح تتحمل أنت و موظفتك الكركمة هي مسؤليتو ليوم الدين
و يعقب أبو فياض :
هادا مشفى و الا إسطبل؟
يحملونه من جديد و كأنهم يحملون
شوال بطاطا
يفيق من إغمائه للمرة العاشرة
يستغيث
يصرخ متألما مع كل حركة و مع كل هزة
فعظامه المكسورة تنهش بلحمه و أعصابه
يصلون إلى المشفى الحكومي
يفحصه الطبيب المناوب
يلتفت نحوهم آسفا :
وصلتو متأخرين يا أخوان
العوض بسلامتكم
العمر الكم
_________________